فتاوى شرعية

الزهد والحكمة

Senin, 3 November 2008 | 07:00 WIB

أن المسلمين المخلصين ضربوا بحظ وافر فى هذا المضمار ، وعطرت الدنيا بما ورد عنهم من مواقف الزهد التى نتجت عنها الحكمة ، { وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة :269]

ويشير أرباب السلوك إلى العلاقة الوثيقة بين الزهد والحكمة ، مستندين إلى ما ورد عن أبى خلاد الصحابى رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((إذا رأيتم الرجل قد أعطي زهدا في الدنيا وقلة منطق فاقتربوا منه فإنه يلقن الحكمة)) أخرجه ابن ماجه (ح 4101) بإسناد ضعيف .

ويكون معنى الحك&am<>p;#1605;ة هنا ما يلهمه الله تعالى للمؤمن من استقامة الفكر والقول والعمل . وليس الزهد مقصورا على معنى واحد يعم جميع الناس ، فهناك من يراه زهدا عن الحرام ، لأن الحلال مباح من قبل الله تعالى ، فإذا أنعم الله سبحانه على عبده بمال من حلال وتعبده بالشكر عليه فتركه له باختياره لا يقدم على إمساكه بحقه .

ويرى بعضهم أن الزهد فى الحرام واجب ، وفى الحلال فضيلة ، فإن إقلال المال والعبد صابر على حاله ، راضٍ بما قسم الله تعالى له ، قانع بما يعطيه أتم من توسعه وتبسطه فى الدنيا ، وأن الله تعالى قد زَهَّد الناس فى أمور الدنيا ، بقوله تعالى { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء :77] ، وغير ذلك من الآيات الواردة فى ذم الدنيا والتزهيد فيها .

وقد فسر الزهد أيضا بأن الإنسان إذا أنفق ماله فى الطاعة ، وعلم من حاله الصبر ، وترك التعرض لما نهاه الشرع عنه فى حال العسر ، فحينئذ يكون زهده فى المال الحلال أتم .

وذهب بعضهم إلى أن الزهد ألا يختار العبد ترك الحلال بتكلفه ، ولا طلب الفضول مما لا يحتاج إليه ، فإن رزقه الله سبحانه وتعالى مالا من حلال شكره ، وإن وقفه الله تعالى على حد الكفاية صبر ، ولم يتكلم فى طلب ما هو فضول المال ، فالصبر أحسن بصاحب الفقر ، والشكر أليف بصاحب المال الحلال .

ونرى أن الاختلاف فى معنى الزهد يرجع لاتساع معنى الزهد واختلاف ظواهره، من ثم تعددت الآراء فى معناه ، فكل نطق عن وقته وأشار إلى حده ، لكن الجمع بين هذه المعانى لا تناقض فيه ، بل فيه الخير الكثير للإنسان .

فهذا هو الإمام الكبير سفيان الثورى يرى أن الزهد فى الدنيا معناه قصر الأمل ، وليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء .

ويرى آخرون أن الزهد الحق هو الذى نصت عليه الآية الكريمة { لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد :23] . فالزاهد لا يفرح بموجود من الدنيا ، ولا يتأسف على مفقود منها .

ويعطينا الإمام عبد الله بن المبارك مفهوما آخر للزهد يزيد المعنى ضياء ، حيث يرى أن الزهد هو الثقة بالله تعالى مع حب الفقر ، فإنه لا يقوى العبد على الزهد إلا بالثقة بالله تعالى .

ومن معالم الزهد الإسلامى : وجود الراحة فى الخروج عن الملك ، وسلو القلب عن الأسباب ، ولكى يسهل على المرء الإعراض عن الدنيا يجب عليه أن ينظر إليها بعين الزوال لكى تصغر فى عينه .

ومن هنا يذهب يحيى بن معاذ إلى أنه لا يبلغ أحد حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاث خصال : ((عمل بلا علاقة ، وقول بلا طمع ، وعز بلا رئاسة)) . وسأله رجل : متى أدخل فى مضمار التوكل ، وألبس رداء الزهد ، وأقعد مع الزاهدين ؟ فقال له يحيى بن معاذ : ((إذا صرت من رياضتك لنفسك فى السر إلى حد لو قطع الله عنك الرزق ثلاثة أيام لم تضعف نفسك ، فأما ما لم تبلغ هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل ، ثم لا آمن عليك أن تفتضح)) .

ويجب على المرء أن يبدأ بنفسه ، وقد قال رجل لذى النون المصرى : متى أزهد فى الدنيا ؟ قال : إذا زهدت فى نفسك .

والزهد مراتب أولها : ترك الحرام ، والمرتبة الوسطى من الزهد : ترك الفضول من الحلال ، والمرتبة العليا : ترك ما يشغل العبد عن الله تعالى .

فينبغى على المسلم ألا يقرب الحرام ، وأن يحاول الفكاك من أسر المادة فيما هو حلال ، وأن يدرب نفسه على ذلك . وللزهد أثر بالغ فى سلوك المسلم وفى حياته ، فالزهد مع الصبر هما من أسلحة المؤمن لمواجهة كل ما يمس كرامته ، فيستطيع المسلم عن طريق زهده وصبره أن يصبر عن كل سبب يؤدى إلى المساس بكرامته .

وبتحلى المسلم بالزهد يمكن له أن يتصف بالعديد من الصفات التى حث عليه الشرع الشريف ، فبغير الزهد لا يستطيع المسلم أن يتحلى مثلا بصفة الإيثار ، فإن الإنسان متى تعلق قلبه بالشىء فمن أين له أن يؤثر به غيره . 

إن العباد والزهاد المسلمين – والذين عرفوا بعد ذلك باسم الصوفية – لم يتخلوا عن تعاليم الدين ما صغر منها وما كبر ، بل إننا لنجد خير تطبيق لتعاليم الدين عند هؤلاء ، بما فيه من تسام وترفع عن إذلال المادة ، التى يؤدى الانغماس فيها إلا ما نسميه الآن بأمراض العصر .

المصدر : أ/د عبد اللطيف العبد ، دراسات فى الفكر الإسلامى ، القاهرة : مكتبة الأنجلو المصرية ، 1977 م ، (ص 39-43) .